فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{لَقَدْ كَانَ في قَصَصِهِمْ} أي قصص الأنبياء عليهم السلام وأممهم، وقيل: قصص يوسف وأبيه وإخوته عليهم السلام وروي ذلك عن مجاهد، وقيل: قصص أولئك وهؤلاء، والقصص مصدر بمعنى المفعول ورجح الزمخشري الأول بقراءة أحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي وعبد الوارث عن أبي عمرو: {قَصَصِهِمْ} بكسر القاف جمع قصة.
ورد بأن قصة يوسف وأبيه وإخوته مشتملة على قصص وأخبار مختلفة على أنه قد يطلق الجمع على الواحد، وفيه أنه كما قيل إلا أنه خلاف المتبادر المعتاد فإنه يقال في مثله قصة لا قصص، واقتصر ابن عطية على القول الثالث وهو ظاهر في اختياره: {عِبْرَةٌ لاّوْلِى الألباب} أي لذوي العقول المبرأة عن الأوهام الناشئة عن الألف والحسن.
وأصل اللب الخالص من الشيء ثم أطلق على ما زكا من العقل فكل لب عقل وليس كل عقل لبًا، وقال غير واحد: إن اللب هو العقل مطلقًا وسمي بذلك لكونه خالص ما في الإنسان من قواه، ولم يرد في القرآن إلا جمعًا، والعبرة كما قال الراغب الحالة التي يتوصل بها من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد، وفي البحر أنها الدلالة التي يعبر بها إلى العلم: {مَا كَانَ} أي القرآن المدلول عليه بما سبق دلالة واضحة.
واستظهر أبو حيان عود الضمير إلى القصص فيما قبل، واختار بعضهم الأول لأنه يجري على القراءتين بخلاف عوده إلى المتقدم فإنه لا يجري على قراءة القصص بكسر القاف لأنه كان يلزم تأنيث الضمير، وجوز بعضهم عوده إلى القصص بالفتح في القراءة به وإليه في ضمن المكسور في القراءة به وكذا إلى المكسور نفسه، والتذكير باعتبار الخبر وهو كما ترى: {حَدِيثًا يفترى} أي يختلق: {ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب السماوية: {وَتَفْصِيلَ} أي تبيين: {كُلّ شَئ} قيل: أي مما يحتاج إليه في الدين إذ ما من أمر ديني إلا وهو يستند إلى القرآن بالذات أو بوسط، وقال ابن الكمال: إن: {كُلٌّ} للتكثير والتفخيم لا للإحاطة والتعميم كما في قوله تعالى: {وأُوتِيتَ مِن كُلّ شَيء} [النمل: 23] ومن لم يتنبه لهذا احتاج إلى تخصيص الشيء بالذي يتعلق بالدين ثم تكلف في بيانه فقال: إذ ما من أمر الخ ولم يدر أن عبارة التفصيل لا تتحمل هذا التأويل، ورد بأنه متى أمكن حمل كلمة: {كُلٌّ} على الاستغراق الحقيقي لا يحمل على غيره، والتخصيص مما لا بأس به على أنه نفسه قد ارتكب ذلك في تفسير قوله تعالى: {وَتَفْصِيلًا لّكُلّ شَئ} [الأنعام: 154] وكون عبارة التفصيل لا تتحمل ذلك التأويل في حيز المنع.
ومن الناس من حمل: {كُلٌّ} على الاستغراق من غير تخصيص ذاهبًا إلى أن في القرآن تبيين كل شيء من أمور الدين والدنيا وغير ذلك مما شاء الله تعالى ولكن مراتب التبيين متفاوتة حسب تفاوت ذوي العلم وليس ذلك بالبعيد عند من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وقيل: المراد تفصيل كل شيء واقع ليوسف وأبيه وإخوته عليهم السلام مما يهتم به وهو مبني على أن الضمير في: {كَانَ} لقصصهم: {وهدى} من الضلالة: {وَرَحْمَةً} ينال بها خير الدارين: {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يصدقون تصديقًا معتدًا به، وخصوا بالذكر لأنهم المنفعون بذلك ونصب: {تَصْدِيقَ} على أنه خبر كان محذوفًا أي ولكن كان تصديق، والإخبار بالمصدر لا يخفى أمره.
وقرأ حمران بن أعين وعيسى الكوفة فيما ذكر صاحب اللوامح وعيسى الثقفي فيما ذكر ابن عطية: {تَصْدِيقَ} بالرفع وكذا برفع ما عطف عليه على تقدير ولكن هو تصديق الخ، وقد سمع من العرب في مثل ذلك الرفع والنصب، ومنه قول ذي الرمة:
وما كان مالي من تراث ورثته ** ولا دية كانت ولا كسب مأثم

ولكن عطاء الله من كل رحلة ** إلى كل حجوب السرداق خضرم

فإنه روي بنصب عطاء ورفعه، هذا والله تعالى الهادي إلى سوء السبيل. اهـ.

.قال القاسمي:

{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}
الضمير ليوسف وإخوته، أو للأنبياء وأممهم. ورجح الزمخشري الثاني بقراءة: {قصصهم} بكسر القاف، جمع قصة. والمفتوح مصدر بمعنى المفعول. وأجيب بأن قصة يوسف وأبيه وإخوته مشتملة على قصص وأخبار مختلفة، وقد يطلق الجمع على الواحد، كما مر في: {أَضغَاثُ أَحْلاَمٍ} وسنذكر وجوه العبر منها بعونه تعالى.
{مَا كَانَ} أي: القرآن المدلول عليه بما سبق دلالة واضحة: {حَدِيثًا يُفْتَرَى} أي: يختلق: {وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: من الكتب المنزلة، فهو يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير.
قال بعض المحققين: المراد به أن قصص القرآن ليست مخترعة ولا مفتراة، بدليل وجود أمثالها بين الناس، قبل نزوله. فهي وإن اختلفت قليلًا في بعض التفاصيل والجزئيات، عما يرويه الناس، إلا أن توافقها في الجملة، وتصدقها في الجوهر، فلا تظنوا أيها المشركون أن النبي اخترعها بعقله، بل اسألوا عنها أهل الكتاب، تجدوا أنها معروفة بينهم، ومروية في كتبهم، فوجود قصص القرآن عند الناس من قبل من أعظم ما يصدقه ويؤيده؛ لأن النبي صلوات الله عليه، لم يطلع على كتب أهل الكتاب. ولا يتوهم من هذه الآية أن قصص القرآن يجب ألا تختلف عن قصص التوراة والإنجيل في شيء ما، كلا إذ لو صح هذا لما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: 76]، فقصصه قد تختلف عما عندهم، وتبين لهم حقه من باطله. فلا منافاة بين تصديق القرآن لقصصهم في الجملة، ومخالفته لها في بعض الجزئيات- كما قلنا- ويجوز أن يكون المراد بقوله: {تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} تصديق الحق الذي عندهم، لا كل الذي عندهم، وإلا لدخل في ذلك عقائدهم الفاسدة وأوهامهم وخرافاتهم وغيرها، مما جاء القرآن لإزالته ومحقه، ويستحيل أن يكون مصدقًا لما جاء لإبطاله. فتنبه لذلك. ولا تكن من الغافلين. انتهى.
وقوله تعالى: {وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ} أي: تبيان كل ما يحتاج إليه من أحكام الحلال والحرام، والآداب والأخلاق، ووجوه العبر والعظات، ولذا كان أعظم ما تنقذ به القلوب من الغي إلى الرشاد، ومن الضلال إلى السداد، وتبتغي به الرحمة من رب العباد، كما قال تعالى: {وَهُدًى} أي: من الضلالة: {وَرَحْمَةً} أي: من العذاب: {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي: يصدقون به، ويعلمون بأوامره، فإن الإيمان قول وعقد وعمل. وخصهم لأنهم المنتفعون به.
خاتمة في مباحث مهمة:
الأول: فيما قيل في وجوه العبر في هذا القصص.
قال في اللباب: الاعتبار والعبرة: الحالة التي يتوصل بها الإنسان من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد. والمراد منه التأمل والتفكر. ووجه الاعتبار بهذه القصة أن الذي قدر على إخراج يوسف من الجب بعد إلقائه فيه، وإخراجه من السجن، وتمليكه مصر بعد العبودية، وجمع شمله بأبيه وإخوته بعد المدة الطويلة، واليأس من الاجتماع؛ قادر على إعزاز محمد صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته، وإظهار دينه. وأن الإخبار بهذه القصة العجيبة جار مجرى الإخبار عن الغيوب، فكانت معجزة له صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: إن قصة يوسف الصديق، جمة الفائدة، وجليلة العائدة، تحدو بكل امرئ أبيّ إلى الإقتداء بها. فإن من أطلق سوام الفكر في حياة يوسف عليه السلام رآها رغيدة، وألفاها هنيئة، وما ذلك إلا لطيب سيرته، وحميد سريرته، وتمسكه بعرى التقوى والفضيلة، ولاسيما فضيلة العفة والطهارة، التي ترفع قدر صاحبها، وتنزله المنزلة السامية. فعلى المرء أن يقتفي أثر هذه الفضيلة الجليلة، كيوسف، فيتسنم ذروة المجد في هذه الدنيا، وينال السعادة الدائمة في الآخرة. انتهى.
قال الإمام أبو جعفر بن الزبير: هذه السورة من جملة ما قص على النبي، صلوات الله عليه، من أنباء الرسل، وأخبار من تقدمه، مما فيه التثبت المشار إليه في قوله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْك} [هود: من الآية 120] الآية. وإنما أفردت على حدتها، ولم تنسق على قصص الرسل، مع أنهم في سورة واحدة؛ لمفارقة مضمونها تلك القصص. ألا ترى أن تلك قصص إرسال من تقدم ذكرهم عليهم السلام، وكيفية تلقي قومهم لهم، وإهلاك مكذبيهم؟ أما هذه القصة، فحاصلها: فرج بعد شدة، وتعريف بحسن عاقبة الصبر، فإنه تعالى امتحن يعقوب عليه السلام بفقد ابنيه وبصره، وشتات بنيه. وامتحن يوسف عليه السلام بالجب والبيع وامرأة العزيز وفقد الأب والإخوة والسجن. ثم امتحن جميعهم بشمول الضر، وقلة ذات اليد: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرّ} [يوسف: من الآية 88] الآية. ثم تداركهم الله بإلفهم، وجمع شملهم، ورد بصر أبيهم، وائتلاف قلوبهم، ورفع ما نزغ به الشيطان، وخلاص يوسف عليه السلام، وبكيد من كاده، واكتنافه بالعصمة، وبراءته عند الملك والنسوة، وكل ذلك مما أعقبه جميل الصبر، وجلالة اليقين، وحسن تلقي الأقدار بالتفويض والتسليم، على توالي الامتحان، وطول المدة. ثم انجرّ في أثناء هذه القصة الجليلة إنابة امرأة العزيز، ورجوعها إلى الحق، وشهادتها ليوسف عليه السلام بما منحه الله من النزاهة عن كل ما يشين. ثم استخلاص العزيز إياه، إلى ما انجرّ في هذه القصة الجليلة من العجائب والعبر. فقد انفردت هذه القصة بنفسها، ولم تناسب ما ذكر من قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام، وما جرى في أممهم، فلهذا فصلت عنهم. وقد أشار في سورة برأسها إلى عاقبة من صبر ورضي وسلم ليتنبه المؤمنون إلى ما في طي ذلك. وقد صرح لهم ما أجملته هذه السورة من الإشارة في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور: من الآية 55] إلى قوله: {أَمْنًا} وكانت قصة يوسف عليه السلام بجملتها أشبه شيء بحال المؤمنين في مكابدتهم في أول الأمر، وهجرتهم، وتشققهم مع قومهم، وقلة ذات أيديهم، إلى أن جمع الله شملهم: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عِمْرَان: من الآية 103]، وأورثهم الأرض، وأيدهم ونصرهم، وذلك بجليل إيمانهم وعظيم صبرهم. فهذا ما أوجب تجرد هذه القصة عن تلك القصص- والله أعلم-.
ثم إن حال يعقوب ويوسف عليهما السلام، في صبرهما، ورؤية حسن عاقبة الصبر في الدنيا، وما أعد لهما من عظيم الثواب، أنسب بحال نبينا عليه السلام في مكابدة قريش، ومفارقة وطنه، ثم تعقيب ذلك بظفره بعدوه، وإعزاز دينه، وإظهار كلمته، ورجوعه إلى بلده، على حالة قرت بها عيون المؤمنين، وما فتح الله عليه وعلى أصحابه، فتأمل ذلك! ويوضحه ختم السورة بقوله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُل} [يوسف: من الآية 110]. فحاصل هذا كله الأمر بالصبر، وحسن عاقبة أولياء الله فيه- كذا في تفسير البرهان للبقاعي ملخصًا-.
وجاء في كتاب النظام والإسلام في بحث التربية والآداب في قصص القرآن ما مثاله: طال الأمر على أمتنا، فأهملت ما في غضون كتابها من أساس التربية والحكمة، وكيف تنتقى الرجال الأكفاء في مهام الأعمال. يا ليت شعري! ما الذي أصابها حتى غضت النظر عن القصص التي قصها، وأهملت أمرها، وظن أهلها أنها أمور تاريخية لا تفيد إلا المؤرخين. القصص في كل أمة، عليها مدار ارتقائها، سواء كانت وضعية أم حقيقية، على ألسنة الحيوان أو الإنسان أو الجماد. على هذا تبحث الأمم، قديمها وحديثها. وناهيك بكتاب كليلة ودمنة وما والاه من القصص الناسجة على منواله في الإسلام، ككتاب فاكهة الخلفاء ومقامات الحريري. جاء القرآن بقصص الأنبياء، وهي- لا جرم أعلى منالًا، وأشرف مزية. كيف لا وقد جمعت أحسن الأسلوب، واختيار المقامات المناسبة لما سيقت إليه، والقدوة الحسنة للكمل المخلصين من الأنبياء ومن والاهم، وتحققها في أنفسها، لوقوع مواردها، وإن حب التشبه طبيعة مرتكزة في الإنسان، لاسيما لمن يقتدي بهم. فهذه خمس مزايا اختصت بها هذه القصص، ونقصت في سواها. أليس من العيب الفاضح أن نقرأ قصص القرآن، فلا نكاد نفهم إلا حكايات ذهبت مع الزمان، ومرت كأمس الدابر؟! وما لنا ولها إذن؟ تالله إن هذا لهو البوار! ولم يكن هذا إلا للجهل بالمقصود من قصصها، وإنها عبرة لمن اعتبر، وتذكرة لمن تفكر، وتبصرة لمن ازدجر. أما الرجوع إلى التاريخ، ومقارنته بما قصه المؤرخون في كتبهم، وما سطره الأقدمون على مباينتهم، وما يقوله القاصون في خرافتهم؛ فتلك سبيل حائد عن الجادة، يضل فيه الماهرون، يرشدك لذلك ما تسمعه من نبأ فتية الكهف، وكيف يقول: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف: من الآية 22] فانظر كيف أسند العلم لله، ولم يعول على قول المؤرخين المختلفين، ثم لم يبين الحقيقة؛ لئلا يكون ذريعة للطعن في التنزيل. فإن قال: خمسة، قالوا: ستة، وإن قال: أربعة، قالوا سبعة. فكتب المؤرخين كثيرة الاختلاف في القصص، وما المقصود منها إلا ليكون عبرة. وبالإجمال: فليس القصد من هذه القصص إلا منافعها، والعبر المبصرة للسامعين: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}.
ولسنا ممن يتبجح بالقول بلا بيان، فلا نعتمد إلا على البرهان. تأمل هذا القصص، تجده لا يذكر إلا ما يناسب الإرشاد والنصح، ويعرض عن كثير من الوقائع، إذ لا لزوم له، ولا معول عليها. فلا ترى قصة إلا وفيها توحيد وعلم ومكارم أخلاق، وحجج عقلية، وتبصرة وتذكرة، ومحاورات جملية، تلذ العقلاء. ولأقتصر من تلك القصص على ما حكاه عن يوسف الصديق عليه السلام، وكيف جاوز فيها كل ما لا علاقة له بالأخلاق، من مدنية المصريين وأحوالهم، إلى الخلاصة والثمرة. ألا ترى كيف صدرت بحديث سجود الشمس والقمر والكواكب له في الرؤيا؛ دلالة على أن للطفل استعدادًا يظهر على ملامحه، وأقواله، وأفعاله، ورؤياه؟ وهذا أعظم شيء اعتنى به قدماء الحكماء، من اليونان والفرس، كما ذكره المؤرخون وعلماء الأخلاق، كانوا يختبرون أبناءهم، ويتأملون ملامحهم؛ ليعرفوا ما استعدوا له من الصناعات والرئاسات والعلوم. ثم تأمل في قصة الإخوة، وحديث القميص والجب والذئب والدم؛ لتعلم ما نشاهده كل يوم من معاداة الأقران لمن ظهرت مبادئ الجمال النفسي، والخلق المرضي، والجلال الظاهر على ملامحه، فيعيبونه بما يشينه في نفسه أو عرضه أو خلقه؛ دلالة على أن هذه سنة في الكون لا تغادر نبيًا، ولا حكيمًا، ولا عالمًا مهما حسنت أخلاقه وجمل ظاهره وباطنه.....!.
كل العدوات قد تُرجى إزالتها ** إلا عداوة من عاداك من حسد

جرت تلك السنة في الأناسي، فإذا صبر الصالح فاز بالولاية عليهم، وأحبوه بعد العداوة ولو بعد حين، وعادوا من آذاه! ثم انظر في حديث قصة امرأة العزيز، وكيف عف مع الشباب، وكيف ساس نفسه وصدق ظن مولاه في الأمانة، وأرضى إلهه، واتسم بالفضيلة، فتوازى جماله الباطني والظاهري..! ولنكتف بهذا القدر الآن، ولنشرع في الكلام على الآداب والأخلاق وتربية الأمراء والعفو والصفح، التي تضمنتها تلك القصة!.
فأما علم الأخلاق، وتربية رؤساء الأمم منها، فتأمل في كلام الحكماء- أولهم وآخرهم- تجد إجماعهم على أن سياسة أخلاق النفس أولًا فالمنزل فالمدينة، كل واحدة مقدمة للاحقتها ثمرة لسابقتها؛ إذ لا يعقل أن يسوس منزله من لم يسس نفسه، أو يسوس أمته من لم يدبر إدارة منزله!.
بايع الصحابة- عليهم رضوان الله- الخليفة الأول، فأخذ قماشًا وذراعًا وذهب إلى السوق في الغداة، فاستاء الصحابة ولاموه، فقال: إذا أضعت أهلي، فأنا للمسلمين أضيع! ففرضوا له دريهمات من بيت المال، فقال: إذن أنظر في شؤونكم! لذلك نجد الغربيين- إذا ولوا رجلًا إدارة بلادهم- أكثروا السؤال عن قرينته وإدارة منزله، علمًا منهم أن منزله أقرب إليه من الأمة.